مشكلة استبداد الأكثرية في الديمقراطية و حلولها
الديمقراطية الألمانية نموذجا
مشكلة استبداد الأكثرية في الديمقراطية و حلولها
الديمقراطية الألمانية نموذجا
يخطأ من يقصر مفهوم الديمقراطية على حكم الأغلبية الانتخابية فقط دون أن يجعل مكانا في فهمه للديمقراطية للمؤسسات الدستورية الّتي تضمن التداول السلمي للسلطة مع حفظ السيادة للشعب على أنه مصدر السلطات.
فمن شأن هذا المفهوم الضيق للديمقراطية أن يفتح الطريق أمام حزب ما حاز الأكثرية الانتخابية الى
أن يحوّل نظام الدولة من ديمقراطي الى استبدادي شمولي. و اذا نظرنا للتاريخ نجد أن هذا ما قد حدث في ألمانيا عندما حاز الحزب النازي من خلال صناديق الاقتراع على أغلبية برلمانية خولته تشكيل حكومة استخدم صلاحياتها لتحويل ألمانيا الى دكتاتورية مصممة على قياس الحزب النازي واستبدلت فيها سيادة الشعب وحقه في اختيار من يمثله كرأي و كشخص عمليا بسيادة الايديولوجية النازية كمرجعية للحكم. فقد قال غوبلز وزير الدعاية السياسية و أبرز مساعدي هتلر عن انتصار الحزب النازي عن طريق الديمقراطية : "هذا سوف يذكر دوما كأكبر مهزلة للديمقراطية عندما شكّلت لأعدى أعدائها الوسيلة التي استطاع بها تدميرها"(1)
سأعرض في هذا المقال التجربة الديمقراطية الألمانية ملقيا الضوء على مواطن الضعف في النظام الديمقراطي و الظروف التي جعلت التحول من نظام ديمقراطي الى ديكتاتورية نازية ممكنا و كيف استفاد مصمّمو الدستور الألماني من دروس الماضي ليخلقوا دستورا يحفظ مكوّنات النظام الديمقراطي من تداول سلمي للسلطة وحماية لحقوق الانسان و يكفل بما يقرّه من اّليات كبح جماح الأغلبية الانتخابية كي لا تتعدّى على سلامة النظام الديمقراطي كما كان الأمر مع الحزب النازي.
جمهورية فايمار و صعود هتلر (1919-1933)
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بهزيمة ألمانيا تم القضاء على الحكم القيصري من قبل الشعب الناقم وجرى الاتفاق في عام 1919 على انشاء جمهورية بدستور و نظام برلماني جديد. و لكن تركة الحرب كانت ثقيلة العبء على المجتمع والاقتصاد الألماني حيث فرضت شروط صعبة على ألمانيا المهزومة تتضمّن التنازل عن أجزاء من أراضيها و دفع تعويضات مالية باهظة للأمم المنتصرة كل هذا أدى الى ارهاق الاقتصاد الألماني و تردي الأوضاع المعيشية و كان هناك تشرذم شديد في المشهد السياسي بين اليمين واليسار أدّى الى اضعاف التلاحم الوطني والولاء للمؤسسات و الثقافة الديمقراطية وبعد فترة من الهدوء السياسي و النمو الاقتصادي في منتصف العشرينات انتهت في عام 1930عندما ضربت موجة جديدة من الركود الاقتصاد الألماني أدت ممّا أدت اليه الى 42% نسبة بطالة في عام 1932. مرّة أخرى كان هناك التجاذب السياسي العاصف الذي منع حدوث اجماع وطني على طريق للخروج من الأزمة على غرار ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية التي خضعت لظروف مشابهة و ان كانت أقل حدة وقد أدّت هذه الظروف في الحالة الأمريكية الى نشوء دولة الرعاية الاجتماعية تحت قيادة روزفلت.
هذا التشرذم السياسي والاجتماعي مع الصعوبات الاقتصادية أدّى الى افساح المجال أمام صعود الحزب النازي في السياسة الألمانية مع زيادة عدد ممثليه في البرلمان الألماني بشكل مفاجىء حيث حصل في عام 1928 على 12 مقعد و 3% من مجموع الأصوات ثم اصبح أكبر حزب في البرلمان في 1932 مع 33% من مجموع الأصوات وتم التوافق في يناير 1933 على جعل هتلر مستشار ألمانيا – وهو ما يساوي تسمية منصب رئيس الوزراء في النظام البرلماني- وما هي الا أشهر وحل البرلمان وأجريت انتخابات جديدة حاز فيها الحزب النازي على ما يزيد عن نصف الأصوات و كان لسيطرة الحزب على وزارتي العدل و الداخلية الدور الأكبر في هندسة هذه الانتخابات و في تهميش خصوم النازيين السياسيين باستخدام العنف و التزوير و أصبح هتلر و حزبه النازي الحاكم الأوحد لألمانيا.
و لنكون واضحين فعلى الرغم أن الحركة النازية أكدت منذ 1923 على سلوكها الطرق المشروعة فقط للوصول الى الحكم الا أن هذا كان صحيحا حتى يناير 1933 حيث استغلّ النازيون الضعف المؤسساتي في النظام الدستوري للجمهورية الألمانية لشقّ طريقهم نحو الحكم، أما بعد هذا التاريخ فقد استفادوا من هذا الضعف المؤسساتي ووجودهم على رأس الحكم بالاضافة الى العنف والأساليب الملتوية لتحويل للدفع بالخطوة الأخيرة لجعل ألمانيا ديكتاتورية نازية. (2)
الدستور الألماني الجديد:
بعد هزيمة النازية و في عام 1949 تم اعتماد الدستور الألماني ولكن تحت اسم "القانون الأساسي" لأنه واضعي الدستور لم يرغبو بتكريس واقع تقسيم ألمانيا بين شطر غربي وشرقي. وكما أسلفت كان لتجربة الديكتاتورية النازية الأثر الأكبر في تصميم النظام الدستوري الألماني، فكان في أذهان معدّيه كما قال أحد منظري هذا الدستور " أن يحرقوا حصان طروادة" الذي قد يتسلل من داخل النظام الديمقراطي ليدمر هذا النظام.
ومن أهم مميزات الدستور الألماني المحصّنة للديمقراطية:
1). جعل مواد الدستور و اضحة و مفصّلة في تعريفها لحقوق الانسان و حمايتها لهذه الحقوق وجعل المواد الأساسية الحامية لحقوق الانسان و المعرّفة للنظام البرلماني الديمقراطي غير قابلة للتغيير. كما يسقط الدستور التمتع بالحقوق الأساسية للجماعات و الأفراد التي تسعى لتغيير النظام الديمقراطي.
من المفيد الاشارة الى أن الدستور الاسباني الذي اعتمد في عام 1978 بعد عقود من الحكم الفاشي يفسح المجال لتعديل مواد الحقوق الأساسية أو الدستور أمام القوى السياسية و لكن تحت شروط صعبة يكفل تحقيقها وجود توافق شعبي و اسع على مراجعة أسس نظام الحكم. هذه الشروط تتمثّل حسب المادة 167 من الدستور الاسباني في جعل تغيير المواد الأساسية للدستور أو طرح دستور جديد ناجزا وفق العملية التالية: بعد أن يتم الموافقة على التعديل المقترح من قبل ثلثي نواب البرلمان يحل البرلمان الذي طرح المشروع و يدعى للانتخابات ثم يجب على البرلمان الجديد المنتخب أن يوافق بنسبة الثلثين على التعديل و بعدها يطرح التعديل للاستفتاء الشعبي. هذا و يحظر الدستور الاسباني منع تعديل الدستور في أوقات الحرب أو الطوارىء.
2). محكمة دستورية و اسعة الصلاحيّات: من أهم نقاط ضعف النظام الديمقراطي في جمهورية فايمر خلوّه من محكمة دستورية مستقلة تنظر في مدى صلاحية تشريعات و اجراءات البرلمان و الحكومة وموافقته للدستور. فنصّ الدستور الجديد على انشاء محكمة دستورية مستقلة تتميز بسعة صلاحيّاتها للنظر في قضايا حقوق الانسان و حماية النظام الدستوري الألماني. هذا ولاستقلال القضاء أهمية كبرى حيث أن المحكمة المتخصصة في النظر بصلاحية الانتخابات نظرا لعدم استقلالها أقرت بصلاحية الانتخابات التي تمت في في ظل الحكومة النازية في مارس 1933 بالرغم من وجود خروقات للدستور في ظروف اجراء تلك الانتخابات.
3). هندسة نظام سياسي مستقر: في ظلّ خلفية تاريخية لجمهورية فايمر أصبح فيها الحكم الديمقراطي صعبا للغاية مع وجود تشظّي سياسي و اجتماعي شديد، كانت نيّة واضعي الدستور الألماني ان يهندسو نظاما سياسيا مستقر يكفل التمثيل الديمقراطي دون أن يجعلوا المشهد السياسي متشرذما ممّا قد يؤدي الى شل الحركة السياسية في الدولة و يفتح الطريق أمام قوى ديماغوجية معادية للديمقراطية لتطرح ايديولوجياتها كبديل لحالة الفوضى السياسية.
وتم ذلك من خلال:
أ). حاجز 5% لدخول البرلمان: فلابد لأي حزب لكي يدخل البرلمان من أن يحصل على 5% من مجموع الأصوات كحد ادنى. و ان كان هناك استثناء لحزب حاصل على أصوات مقاعد البرلمانل ثلاثة دوائر انتخابية وهو ما يعد صعب التحقيق في النظام الألماني. و لعلّ من المفيد الاشارة الى أنّ هذه النسبة هي عشرة بالمئة في النظام التركي. الغاية من هذه الحدود الدنيا جعل التوافق على قرار سياسي اسهل بتجميع المشاركين في صنع هذا القرار بأيدي احزاب أقل و أيضا اغلاق البرلمان أمام تأثير الأحزاب الراديكالية في تشكيل الحكومة- كالأحزاب الدينية في الحكومات الاسرائيلية- أواستخدامها البرلمان كمنبر للتحريض غير المسؤول.
ب). التوافق قبل سحب الثقة من الحكومة: ويشترط الدستور على البرلمان كي يخوّل بسحب الثقة من الحكومة أن يتوافق على رئيس حكومة بديل لرئس الحكومة الحالي. ممّا يضمن عدم وجود فراغ سياسي في حال عدم رضى أو استياء كبير من اداء الحكومة الحاليّة.
ج).منع التنظيمات المهدّدة للنظام الديمقراطي: حيث ينص الدستور في مادته الثامنة عشرة على أنّ " كل من يسيء استعمال حرية التعبير عن الرأي، وخاصةً حرية الصحافة حرية التعليم ، حرية التجمع، حرية تكوين الجمعيات سرية الرسائل والبريد والاتصالات الهاتفية، حق الملكية أوحق اللجوء السياسي؛ للكفاح ضد النظام الديمقراطي الأساسي الحر يسقط عنه التمتع بهذه الحقوق الأساسية. هنا تقع صلاحية الحكم بإسقاط الحقوق ومدى إسقاطها بيد المحكمة الدستورية الاتحادية."
وهكذا نجد أهميّة أن يحصّن النظام الديمقراطي الدستوري من أن يستخدم مطيّة لمن هو عدو للحرية و الديمقراطية. وكلّما كانت الظروف الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية بعيدة عن افراز جو ديمقراطي حر كلّما كانت الأهمية أكبر للتحصين المؤسساتي للديمقراطية كشرط ضروري وان كان غير كاف لصيانة النظام الديمقراطي.
و هذا رابط لترجمة عربية للدستور الألماني:
.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------
(1) Issacharoff, Samuel (2007), ‘Fragile Democracies’, Harvard Law Review Vol. 120, No.6 (April, 2007), pp. 1406- 1467.
(2) Loewenstein, Karl (1937), ‘Dictatorship and the German Constitution: 1933-1937’, The University of Chicago Law Review Vol. 4, No.4 (Jun, 1937), pp. 537-574.
Comments
Post a Comment